كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم شرح القرآن الكريم ما صنع اليهود بدينهم- حتى نحذر الوقوع في مثله- فقال: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه..}. وتحريفهم له صور شتى: أولها الميل بالكلام عن معناه الظاهر اتباعا للهوى وكراهية للمعنى القريب ولدى القوم بشارات برسول قادم، وهم يصرفونها عن المقصود بها إلى ما يرغبون حتى لا يصدقوا محمدا، أو يشهدوا له.. ومن التحريف الزيادة على النص الوارد لأنها ضميمة غريبة إلى الوحى النازل لا علاقة له بها. وقد أحصى الشيخ رحمة الله الهندى في كتابه إظهار الحق مائة شاهد على هذا التحريف المتعمد، وقعت في الكتاب المقدس: {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}. وكتاب إظهار الحق أكمل ما كتب في هذا الموضوع. ومن تعنت اليهود وسوء أدبهم قولهم للرسول: {سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين}. وقد هددهم الله بأنهم إذا بقوا على عنادهم بطش بهم، فقال: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا}وقد ظل اليهود على عنادهم فمحا الله آثارهم من الحجاز، وطمس وجودهم به... وقد عادوا الآن مرة أخرى بعد ما انفرط عقد المسلمين واستهانوا بمواريثهم، والمستقبل لأهدى الفريقين وأنشطهما في نصرة الله ورسوله، ولعلنا نعود إلى الله فيعيد لنا عزنا القديم! ثم قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. الشرك نوعان: الأول أن تحسب للعالم خالقين أو رازقين أو مدبرين.. أو أكثر. والثانى أن تلجأ لغير الله في التشريع والتحليل والتحريم، والدعاء والنذر والتوكل.. الخ. واليهود لم يكونوا مشركين بالمعنى الأول، وإنما إشراكهم، وإشراك أشباههم يجئ من تحكيم غير الله والاستمداد منه، وكلا النوعين جرم لا يغتفر، لأنه فساد عميق بالنفس الإنسانية. ومع الحضارة الحديثة ظهر نوع أوغل في الفساد والإلحاد، وهو جحد الألوهية أصلا، وعبادة الهوى، ونسيان الرب وتعاليمه نسيانا مطلقا... والإسلام في هذا العصر يقاوم فنونا من الجحود، والتعطيل، والتثليث، والتشبيه، والحكم بغير ما أنزل الله، والجراءة على أصول الشريعة وفروعها. وعلى رجاله أن يقدروا ثقل هذه التبعات، وأن يضيئوا دروب الأرض بما في أيديهم من نور، ولا يكونوا كاليهود الذين زعموا أنهم شعب الله المختار، ثم لم ير الناس منهم خيرا يذكر ولا صنيعا يشكر. حتى قال فيهم هتلر: إنهم كالطفيليات تسكن البدن فتسرق غذاءه وتمنع نماءه، ولا عافية له إلا له إلا بالخلاص منها... وبلغ السعار اليهودى الحضيض عندما سئل رؤساء إسرائيل أي الفريقين أولى بالنصر وأدنى إلى الحق؟ فكان ردهم الوثنية أفضل من الإسلام، وحماة الجاهلية خير من أصحاب محمد..!! إن الدين عند بنى إسرائيل ليس عدالة ولا سماحة ولا خشية! إنه كل ما يذكى الصلف الجنسى عند القوم، ويشبع أثرتهم وغرورهم. وقد كرهوا العرب ولا يزالون، لأنهم الأمة التي اصطفاها القدر لحمل أمانات الوحى، بعد ما عبث الإسرائيليون بالوحى، وناءوا بتكاليفه. وأولاد يعقوب جزء محدود من آل إبراهيم، فلماذا يريدون احتكار نعمة الله على إبراهيم وآله فيظفروا بها وحدهم ولا يكون لأولاد إسماعيل نصيب منها؟. ولماذا ينقمون على أبناء عمومتهم ما نالهم من فضل الله، ويمالئون عباد الأصنام عليهم؟؟ {أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا * أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا}. والآية تشير إلى بخل اليهود المعروف، فلو أنهم ملكوا خزائن ربك ما تسرب منها عطاء لمحتاج ولا فضل على كفء، وقد حسدوا العرب على ما نالوا من خير، فما دخلهم في هذا وما اعتراضهم؟.
{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما}. واليهود- لشدة غضبهم من انتقال الوحى إلى العرب- يتوارثون تكذيب محمد ومخاصمة قومه، وقد جاءوا بعد أربعة عشر قرنا إلى فلسطين يبغون استعادة مجدهم القديم، منتهزين فرصة أن العرب فرطوا في مواريث الإسلام، وتخلفوا في مضمار الحياة، وغلب عليهم اللهو واللعب.. وسمع أهل العصر صياحهم وهم يدخلون القدس هاتفين: يا لثارات خيبر! محمد مات وترك بنات! فهل نخجل من خطايانا ونعود إلى ديننا حتى يقال: محمد عاد، ومعه آساد؟؟. واسترسل السياق يلوم اليهود على شهادتهم للوثنيين، إن الشهادة أمانة، وأداؤها إلى أهلها دين، ولا ذرة من الإنصاف في تفضيل الوثنية على الإسلام، لذلك قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به..}. وللأمانة معان كثيرة مادية ومعنوية، تدور كلها على صون حقوق الله وحقوق الناس، في سائر الأعمال والأحوال، ولا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له... بعد ما قص القرآن من أخبار اليهود، شرع يحكى أخبار طائفة ثانية كان لها خطر كبير على الإسلام وأهله، هي طائفة المنافقين الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان، حتى كشفتهم أعمالهم وفضحت سرائرهم... وبدأ الحديث عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا..}. والتعبير بزعموا إشارة إلى كذب دعواهم، والطاغوت ما يحتكم إليه دون الله من إنس وجن وجماد..! ومقتضى الإيمان الكفر بالطواغيت، والبعد عما توسوس به، قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات..} وقال في هذه السورة: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت..}. ووصف الطاغوت مطرد في كل ما يبعد عن الله ويصد عن سبيله ويخاصم شريعته، والمنافقون هنا يسمعون نصح المؤمنين لهم باتباع الله ورسوله، ولكنهم يمضون في طريقهم، وكلما خطوا خطوة ملكهم العناد والضلالى فإذا هم يقطعون مسافات بعيدة في الطريق الجائر، فلا يكاد صوت الناصح يصل إليهم، {أولئك ينادون من مكان بعيد}. وقد يكون المنافق قريبا منك ببدنه، ولكنه بعيد عنك بقلب غففته الأهواء، فهو لايعى ما يقال ولا يتأثر به {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا!}. وفي سورة أخرى {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون}. ولكل كافر صريح أو منافق وجهة نظر يستمسك بها ويجادل عنها. وليس من الضرورى أن يكون تاركا للحق بعد ما تبين له. إن كثيرا من المبطلين يعتقد أنه محق!! {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا}. بيد أنهم لا يبفون طويلا حتى يحصدوا المرمما غرسوا. وللمسالك السوء نتائجها القريبة والبعيدة، وعندما تتكشف يجئ هؤلاء محاولين الاعتذار {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا}. والمتعصبون في عصرنا للقوانين الوضعية يدافعون عنها، ويحسبون أنهم على شىء، وعندما تسود الفتن البلاد وتكثر الجرائم، عندئذ قد يفكرون ويتراجعون ويعتذرون {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا}.
وهناك موضعان ينكشف فيهما النفاق، ويبدو وجهه الدميم: الأول كراهية الحكم بما أنزل الله، والآخر كراهية الدفاع عن الحق والقتال في سبيل الله!! والمنافقون عموما يضيقون بأنواع الطاعات من صلاة وصدقة، وربما استطاعوا الاستخفاء بهذا الضيق، أو كابروا فيه، لكنهم أمام الحكم بما أنزل الله والجهاد في سبيله تنكشف بواطنهم ويفتضحون! والرسل تجيء من عند الله بمناهج كاملة للحياة الرشيدة، وأتباع الرسول- انطلاقا من الإيمان والسمع والطاعة- ينفذون ويستقيمون على الطريق، وليس أمامهم إلا هذا المسلك، ولذلك قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وليس في تعاليم الدين ما يحرج النفوس، ولكن العجزة وذوى العزائم الخائرة يستثقلون الجهاد وصنوف الطاعات، وكان خيرا لهم لو نشطوا وصدقوا ومضت سورة النساء تشرح خلائق المنافقين في سياق مطرد، وإن شاب هذا الشرح وصف لطائفة أخرى يكثر وجودها في المجتمعات، وتحتاج إلى معالجة متأنية حكيمة، هذه هي طائفة ضعفاء الإيمان!! والصلة موجودة بين المرضى والموتى، بين إيمان مفقود، وإيمان معتل يمكن أن يضيع. إذا لم تتم مداواته. ولهذا الإيمان المريض صور.. فالصورة الأولى تتضح معالمها في قوله تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}. هذا رجل تحركه مآربه، وتقترن آماله بمصالحه الخاصة لا بمسيرة الدين ومستقبله.. إن قلبه مشوب يتأرجح بين الإخلاص والأثرة..!! ومثله رجل آخر يصلى ويصوم ويترك المعاصى.. حتى إذا بلغته فريضة الجهاد جرع واضطرب، وطلب مهلة {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية}.
والسورة تعالج ضعفاء الإيمان في أماكن شتى، ومن رحمة الله ألا يترك هؤلاء صرعى وساوسهم، حتى يفقدوا دينهم.
لقد قال للصنف الأول: لا تكن عبد رغبة ورهبة تشدك مصلحتك الشخصية وحدها إلى الإقدام أو الإحجام!. ما معنى أن تحزن لما فاتك من غنيمة عند النصر، أو تفرح لنجاتك عند الهزيمة!! هذه دناءة لا تليق بمؤمن. تجرد لله وأقبل على المعركة لرفع كلمته وحدها {فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما..} الخ. وقال للصنف الثانى: إن الآجال محددة المواقيت {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا}. ومع طول الأجل قد تسقط من الطائرة فتمشى على الأرض بقدميك. ومع قصر الأجل قد تموت حتف أنفك فيمسك قلبك عن الوجيب وأنت في بيتك..!! والأصناف التي تتردد بين النفاق وضعف الإيمان كثيرة، وهاك نماذج أحصتها سورة النساء، قال تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله}. والآية تذكرنا بموقف الفراعنة من موسى {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون}. وكذلك فعلت ثمود مع صالح... والمقصود بالحسنة الأحوال الحسنة من خصب ورخاء وعافية وغنى، والمقصود من السيئة أضدادها. ولا صلة لذلك بالاصطلاح الشرعى عن المعاصى والطاعات! والتشاؤم من بعثة الرسل كفر، وربما كان هذا الموقف من اليهود، وربما كان من حدثاء الإيمان الذين عرضت لهم بعد إسلامهم متاعب غير متوقعة!! وعقيدتنا أن الله هو الضار النافع الخافض الرافع، وأنه خالق كل شيء وسائقه، فلا قدرة لبشر على خلق وإنشاء، ولكن البشر لهم إرادات وقدر تعمل داخل نطاق محدود في هذا الكون الكبير الذي لا ندرى منه إلا القليل... وهذا معنى {قل كل من عند الله} ثم جاء تفصيل لاحق يبين أن أغلب ما يصيب الناس من شرور هو لسيئات اقترفوها أو تقصير وقعوا فيه، وهذا معنى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. وإنما قلنا: أغلب ما يصيب الناس، لأن الله قد يبتلى بما يرفع الدرجات على طريقة إذا سبقت للعبد منزلة فلم يبلغها بعمله، سلط عليه بلاء يرفعه إليها- بصبره وتسليمه- فكل شيء لله إيجادا وإرسالا، ولنا كسبا واكتسابا، ونحن السبب في أغلب السيئات التي تصيبنا... وهذا صنف آخر {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..}. من المآسى أن تشتغل الدهماء بشئون الدولة الكبرى، وأن تبدى رأيها فيما لا تعرف له رأسا من وقد رأيت من يتحدث في الفقه ولا فقه له، ومن يفتى في قضايا الحرب والسلام ولا رأى له، ومن يريد إصلاح العالم وهو عاجز عن إصلاح بيته، لماذا لا نترك الأمور لأربابها؟ ولماذا تبعثر الشئون الحربية والمالية في كل مكان... يا بارى القوس بريا ليس يحسنه لا تظلم القوس أعط القوس باريها!. إن الله يأبى أن يسأل عنه من يجهله {الرحمن فاسأل به خبيرا}. ومن الخير أن نحترم الأخصائيين، وأن نقف عند حدود علمنا. والأمم الكبيرة تحترم الإخصائيين، وتوفر لهم الجو الذي ينتجون فيه، فإهانة هؤلاء تضر المجتمع كله. وماذا على أفراد الجمهور لو أتقنوا ما يوكل إليهم، وتركوا لغيرهم ما يحسنون؟ لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا. وفى الحديث: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه..».